التعلّم حتى ولو في خيمة

كاتب التقرير: مراد القوتلي

في أرض وحلة تتعالى من داخل قطع القماش التي تُشكّل معاً خيمة، أصوات تضج بالحياة رغم أن كل شيء تقريباً يدعو لليأس، هنا تُكتب الأحرف وتُمحى، تُجمع الأرقام وتُطرح، تصدح الأناشيد، وتُرسم الأحلام على صفحات الدفاتر. 

في كل صباح ينطلق أطفال من خيامهم  في مخيمات عدة بالشمال السوري إلى خيمة أخرى داخل مخيماتهم، لكنهم لا يسمونها خيمة بل مدرسة، وفي الحقيقة لا تتشابه مع المدارس التي يعرفها العالم إلا في الاسم فقط. 

يجلس معظم أطفال “خيام المدارس” على الأرض، فلا مقاعد لديهم، ولا سبورة كبيرة يكتبون عليها، ولا شبابيك يسترق الأطفال من خلالها النظر لرؤية رفاقهم وهم يلهون في الباحة، ولا جدران تمنع تسلل البرد إلى أجساد الأطفال الغضة. 

لكن على الرغم من ذلك، يُصر أطفال في مخيمات بالشمال السوري على الدراسة وإن كان في خيمة. 

الطفلة غزل عمرها 6 سنوات، وهي إحدى التلميذات اللواتي يذهبن إلى “خيمة العلم” في مخيم الزهور، تجلس على الأرض لساعات رفقة فتيات أخريات لم يجمعهن النزوح فقط بل حتى حب الرسم والرياضيات واللعب بين الأشجار المحيطة بالخيمة التي يدرسن فيها.

لم تعرف غزل في حياتها مدرسة سوى هذه الخيمة، وتعتقد بأن شكل المدارس لطالما كان على شاكلة مدرستها الحالية بالخيمة، وقالت عندما التقيناها إنها تُحب مدرستها.

تُقدر الأمم المتحدة تعرّض حوالي 40% من البنية التحتية للمدارس في سوريا للضرر أو للدمار أثناء الحرب، الأمر الذي حرم الملايين من الأطفال من فرصة إكمال تعليمهم. 

كان الشمال السوري قد تعرّض مراراً لعمليات قصف ومعارك كان لها دور كبير في تدمير المدارس، ولذا نشأت مبادرات من سكان المخيمات المنتشرة على طول شمال سوريا لإنشاء مدارس داخل المخيمات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تعليم الأطفال. 

في مخيم يُدعى “مخيم الشط”، يدرس الطفل خير علي مصطفى (11 عاماً) في خيمة رفقة عدد من أطفال المخيم الآخرين، يقول بنبرة حزينة إن “مدرسته” لا اسم لها، ويكتفي بوصفها بأنها مجرد خيمة فقط. 

يشكو مصطفى من الطين المنتشر على طول الطريق للخيمة أيام الشتاء، ويصف الحياة التي يعيشها بالمخيم بأنها صعبة، لكنه يبدي إصراراً كبيراً على إكمال تعليمه أملاً منه في أن يساعده التعلّم عندما يكبر على تحسين أوضاعه وأوضاع عائلته الاقتصادية. 

يشتاق مصطفى لمدرسته التي كان يذهب إليها في ضيعته قبل أن تتعرض للقصف ويضطر إلى النزوح لمخيمات الشمال السوري، فعلى الأقل بالنسبة له كان بإمكانه وبقية الأطفال الآخرين الذهاب لمدرسة الضيعة حتى وإن كان البرد قارساً. 

لكن في الخيمة التي يدرسون فيها حالياً، فهم مضطرون إلى التوقف عن الذهاب إليها إذا ما كان الجو بارداً وإذا ما أمطرت السماء. 

يحلم مصطفى في أن يدرس الحقوق في الجامعة وأن يصبح محامياً، وقال وهو متحمساً إنه يريد أن يدافع عن حقوق الناس.

في مخيم آخر بالشمال السوري، يبني طفل اسمه مصطفى صبري حلمه يوماً بعد يوم، بأن يصبح طبيباً، فعلى الرغم من عدم شعوره بالراحة وهو يقضي ساعات من يومه في الخيمة للتعلم، إلا أنه في النهاية يرى بأن وجود “مدرسة” متواضعة أفضل من عدم وجودها إطلاقها. 

يبلغ صبري من العمر 10 سنوات، ويعيش في “مخيم التعاون”، وكغيره من الأطفال يمثل الشتاء كابوساً له، فهطول الأمطار والثلوج يعني حرمانه من الذهاب لـ”خيمة العلم” لأيام.

في نفس المخيم الذي يعيش فيه صبري، تذهب الطفلة رؤى التي تبلغ من العمر 12 عاماً إلى الخيمة أيضاً للتعلّم، وهذه الطفلة تمنح الأمل لغيرها من الأطفال، فهي ليست تلميذة على مقعد الدراسة فحسب، بل في بعض الأحيان تصبح هي المعلمة، إذ تساعد أطفالاً آخرين لم يستوعبوا الدروس بشكل جيد.

عندما التقينا رؤى كانت تتحدث بإصرار عن رغبتها في مواصلة التعلّم حتى الحصول على شهادة جامعية في الطب، وعلى الرغم من افتقار الخيمة للمتطلبات الأساسية للتعليم إلا أن رؤى تُحب مقعدها ودفاترها وأقلامها. 

حال رؤى كحال بقية الأطفال الذين يشكون من قساوة الطقس، وتشعر الطفلة بالحزن عندما لا يأتي أصدقائها إلى الخيمة عندما تسوء الأحوال الجوية.

يُخشى من أن تؤثر ظروف الحياة القاسية، وصعوبة التعليم على نفسيات الأطفال في المخيمات، إذ تُشير الأمم المتحدة في تقرير لها، إلى أن واحداً من بين 8 أطفال سوريين في كل صف دراسي، يحتاجون إلى دعم نفسي واجتماعي مختص، لحقيق التعلّم الفعال. 

تؤكد الأمم المتحدة أيضاً من أن من 2 مليون طفل (أي أكثر من ثلث الأطفال السوريين) هم خارج المدرسة، كما يواجه 1.3 مليون طفل خطر التسرب.

وليس حال الأطفال السوريين في بلدان اللجوء المجاورة لسوريا بأحسن حال، إذ تُشير تقديرات أممية إلى أنه لا يزال أكثر من 800 ألف طفل خارج المدرسة.

في الأردن على سبيل المثال فإن 38% من الأطفال السوريين والذين تتراوح أعمارهم بين 15 و17 سنة غير ملتحقين بالمدارس، وتُرجع المنظمة الدولية سبب التسرب أو عدم التسجيل في المدرسة إلى بُعد المسافة والتكلفة والاكتظاظ والتعرض لظاهرة التنمّر.

يريد أطفال المخيمات في الشمال السوري أن يعيشوا كغيرهم من الأطفال في بقية بقاع الأرض، فهم أيضاً لديهم أحلام وآمال يسعون لتحقيقها رغم سوء أوضاعهم الحياتية والاقتصادية.