يوم بُترت قدمي.. أطفال سوريون حرمتهم الصواريخ أغلى ما يملكون

كاتب التقرير: مراد القوتلي

تصوير: خليل العشاوي

جلس ذلك الجسد الصغير على الفراش، سندت الطفلة ظهرها إلى المخدة، ها قد بدأ وعيها يعود إليها شيئاً فشيئاً، كان من حولها إما يبكون في عيونهم، أو في قلوبهم، بدأت الطفلة تحدّق في أصابع يديها، ثم نظرت بعيون خائفة إلى الجزء الأسفل من جسدها. 

كان لديها شعور مختلف وهي تنظر إلى قدميها، فإحداها سليمة وحرّكت أصابعها للأمام والخلف، أما الثانية فكانت أقصر من الأولى، فلا وجود هنا للأصابع بل لا وجود للساق أبداً، لأن الصاروخ الذي سقط بجانب الطفلة لم يخطف أرواح من حولها فقط، بل أخذ ساقها أيضاً. 

هي الطفلة دعاء التي تبلغ من العمر 13 عاماً، وتعيش في الشمال السوري بقدم واحدة، وهي واحدة من بين آلاف السوريين الذين بُترت أقدامهم بسبب إصاباتهم بالقذائف والصواريخ. 

اختبرت الطفلة دعاء وغيرها من الأطفال ماذا يمكن أن تفعل ثوانٍ قليلة بحياة الإنسان على حين غرة، وكيف يمكنها أن ترسم شكل حياة للإنسان لم يكن يتوقعه أبداً. 

قبل أن تطلق الطائرة صواريخها على منزل الطفلة، كانت دعاء تلعب في فناء الدار مع أقاربها، كانت ضحكاتهم تُسمع في كل الغُرف قبل أن ينقلب الضحك إلى بكاء وأصوات رعب.

التقينا بالطفلة دعاء وجلست وبجانبها الطرف الصناعي الذي تعتمد عليه لإكمال حياتها، عرفت دعاء بأن 3 صواريخ أطلقتها الطائرة التي قالت إنها روسية على المنزل. 

دخلت شظية كبيرة إلى قدمها الرقيقة، وبدأت تنزف بشدة بينما كانت الطفلة في حالة من الذهول والخوف، وفي البداية رأت الدم ينسال من قدمها على الأرض، قبل أن تُسعف على عجل إلى المستشفى. 

لم تفلح جهود الأطباء لأيام في إنقاذ قدم دعاء، إلى أن بات الأمر يشكل خطراً على بقية جسدها، وهنا قرر الأطباء ألا مفر لدعاء من أن تُبتر قدمها. 

بُترت القدم، وبُترت معها أحلام كانت الطفلة تأمل بأن تحققها يوماً ما، أصابت الشظية همّة الطفل في مقتل، جعلتها حبيسة المنزل تقريباً، فما عادت تلعب مع صديقاتها في الشارع، وما عادت تقفز على ذلك الحبل. 

أصبح الطرف الصناعي جزءاً أساسياً من حياة دعاء، وصحيح أنه بات بالنسبة لها شيئاً يخفف من محنتها لكنه يشكل عبئاً عليها أيضاً، فهو يحتاج كل فترة إلى تبديل حتى يتناسب مع نمو الجسم.

حالياً لا تستطيع الطفلة دعاء أن ترتدي الطرف الصناعي لأنه بات صغيراً على ما تبقى من ساقها، وإذا ما اضطرت إلى ارتدائه فإنها تشعر بالألم. 

فقدان دعاء لقدمها تسبب أيضاً بعدم ذهابها إلى المدرسة منذ سنوات، وأثر على حياتها الاجتماعية، فليس لديها سوى عدد قليل من الأصدقاء. 

تتمنى دعاء لو أن ذكرياتها عن اليوم الذي تعرضت فيه للإصابة ذهبت مع قدمها، فهي لا تزال تتذكر تفاصيل ذلك اليوم وكيف كانوا قد اختبأت مع أقاربها ظناً منهم أنهم في مأمن من الصواريخ. 

لكن في النهاية بُترت قدم دعاء وبقيت ذكرياتها المؤلمة، وتشعر الطفلة بالأسى عندما تقارن حياتها الآن بحياتها قبل أن تخسر قدمها، وتروي كيف كانت تلعب وتركض وكيف أصبحت الآن مجبورة على البقاء في المنزل. 

تُقدر منظمة الصحة العالمية بأنه يوجد ما لا يقل عن 86 ألف شخص في سوريا بُترت أطرافهم جراء الحرب، كما يعاني ما لا يقل 1.5 مليون شخص مع إعاقات مستدامة، وتُشير توقعات مراكز صحية في الشمال السوري بأن يكون عدد الذين بُترت أقدامهم من السوريين أكبر ذلك، إذ أن بعضهم انتقل للعيش في دول أخرى. 

عادة ما يغرق الأطفال في دموعهم عندما يفقدون ألعابهم، يثيرون أحياناً استغراب الكبار وهم يحزنون على قطعة من الشوكولا أو الشيبس لأنهم أضاعوها، فكيف إذا فقد الأطفال جزءاً من جسدهم. 

هنا سنتحدث عن محمد الذي يبلغ من العمر 10 سنوات، والذي يعاني من آثار نفسية سيئة للغاية بسبب فقدانه لقدمه، ولأقاربه الذين ماتوا أمام عينيه عندما تعرضوا جميعاً للقصف في الشمال السوري. 

قبل دقائق من أن تحط الصواريخ في منزل محمد، كان الطفل يجلس على مقاعد الدراسة رفقة أصدقائه الكثيرين الذين يحبهم ويحبونه. 

آخر من كان بجوار محمد قبل أن يتعرض للمأساة طفلة هي ابنته عمته وكان بمثابة التوأمين في تقربهما من بعضهما، قتل أحد الصواريخ الطفلة، وترك جسد محمد مليئاً بالشظايا التي لم تخترق قدمه فقط بل حتى أمعاء جسده، ما اضطر الأطباء لإجراء عملية له كانت خطيرة على حياته. 

بُترت قدم حمد، وأصبحت حياته الآن معتمدة بشكل رئيسي على الطرف الصناعي، وإذا ما فقده أو إذا تعرض الطرف لضرر فإنه يدخل في حزن شديد. 

لا ينسى محمد تفاصيل ذلك اليوم الذي أُصيب به، ويتذكر كيف تم إنقاذه من تحت الأنقاض وكيف بُترت قدمه.

يتملك محمد وعائلته الحزن والأسى أيضاً، فالطفل لديه فرط في النشاط وفي مثل هذه الحالة عادة ما يكثر الأطفال من الحركة واللعب، لكن بالنسبة لمحمد فإن ذلك غير متاح له الآن ما يشكل عليه عبئاً إضافياً. 

لكن رغم ذلك، يخفي محمد وراء حزنه على فقدانه لساقه إصراراً كبيراً على ألا يُشعر من حوله بأنه عالة عليهم، فهو شديد الحب للخروج من المنزل والمساعدة في شراء حاجيات المنزل، كما أنه يرغب بالعمل ومساعدة العائلة في تأمين قوت يومها. 

الطفل محمد قال عندما التقيناه إنه في البداية كان يشعر بالضغط من استخدامه للطرف الصناعي، لكن مع مرور السنوات بدأ يتأقلم عليه وأصبح شيئاً طبيعياً بالنسبة له. 

عائلة محمد هي الأخرى انقلبت حياتها بعدما بُترت قدمه، ويقول والده إن حياتهم تغيرت بشكل جذري بعد الحادثة، وبنبرة حزينة يصف الأب حال طفله بالقول إنه محمد كان في السابق وكأنما يعيش في غابة فسيحة يتحرك فيها كما يشاء، أما الآن فبات كالعصفور المحبوس في قفصه.

تُشير تصريحات المسؤولين الصحيين العالميين حول ضحايا الحرب في سوريا، إلى واقع عصيب يعيشه المصابون في البلاد، ففي تصريح للرئيس السابق لرابطة الأطباء الدوليين، مولود يورت سفن، قال إن “نسب إصابات الساق وبتر الأذرع في سوريا هي الأكبر في العالم منذ الحرب العالمية الثانية”. 

الطفلة لانا  كانت في الخامسة من عمرها عندما سقط الصاروخ على منزلها وأصابها، وجعلها مضطرة لأن تُكمل بقية حياتها معتمدة على طرف صناعي بعدما بُترت قدمها. 

لم تذهب الطفلة لانا بعد إلى المدرسة، ولا تخفي أمها قلقها على مستقبل الطفلة التي تلقى رعاية مضاعفة من المنزل بسبب إصابتها. 

بدأت لانا تتأقلم شيئاً فشيئاً مع الطرف الصناعي، حتى أنها باتت تركض رغم ارتدائها له. 

يتشابه حال لانا، مع حال الطفل محمد الذي يبلغ من العمر الآن 5 أعوام، كان قرب منزله عندما أطلقت طائرة صواريخها على الحي. 

عندما سألنا محمد عما حدث معه، تكلم بلغة الكبار، وقال: “كنت بجانب منزلي، تعرضنا للقصف ثم تم نقلي إلى المستشفى، وهناك بُترت قدمي ثم عُدت إلى المنزل”، قبل أن يُنهي كلامه: “هذه هي قصتي”. 

كان آخر شيء يفعله محمد قبل أن يُصاب أكل السكاكر، وهو يمضي حياته الآن رفقة الطرف الصناعي.

صحيح أن هذه الأطراف الصناعية تقلل من وطأة المأساة التي أُجبر الأطفال على عيشها، لكنها في النهاية لا تستطيع إخماد مشاعر الحزن والأسى الذي يعتصر قلوبهم.