العيش على هامش الحياة: أماكن نوم لا تجد السعادة طريقاً إليها

أثقل النعاس جفون الأطفال، توجهوا إلى فراشهم بعدما استجمعوا ما تبقى من قوة في أجسادهم، تمر الدقائق الأولى عليهم عصيبة للغاية، الأيادي والأقدام ترتجف من البرد، لا يجرؤ أحدهم على تحريك قدمه في الفراش قيد أنملة، يطمعون بنعيم ذلك الدفء القليل الذي بدأت أقدامهم تشعر به وهم في فراشهم، فإذا ما حركوا أقدامهم إلى طرف الفراش، تنقبض أجسادهم مرة أخرى من الشعور بالبرد. 

في الليلة نفسها لكن في مكان آخر، ينام عدد من الأطفال في فراش واحدة، وآخر ما يشاهدونه قبل النوم حائطٌ وهو في الحقيقة مشهد يثير الرعب، فآثار صاروخ دمّر أجزاءً واسعة من المكان بدت واضحة على الجدار.

هناك قصة ثالثة، بل ورابعة، وفي الحقيقة إذا ما أردتم المزيد فلا نهاية للقصص المشابهة، ما ستقرأونه لن يترك شكاً بأن الواقع أغرب من الخيال وأشد ألماً.

في تلك البقعة الواقعة في إدلب شمال سوريا، يعيش أطفال حياةً يصعب لمن لم يشاهدها أن يتخيل تفاصيلها.

أين ننام؟ ذلك السؤال الذي كثيراً ما سلب النعاس من عيون آباء وأمهات، وجدوا أنفسهم محاصرين بين أجساد أطفالهم الغضة، وبين أبنية أحالها القصف إلى هياكل سكنية مهددة بالانهيار في أي لحظة.

 

أماكن النوم

هنا ينامون

 

يلعب الأطفال عند مدخل بناء رسمت الحرب ملامحها عليه، وفي يوم ما، كان البناء يضج بالحياة، وصيحات التلاميذ في داخله تصل إلى الشوارع المجاورة.

 

لم يتبق من هذا البناء إلا هياكله المتداعية، هنا كانت المدرسة، واليوم أصبحت مأوى لعائلات وجدت نفسها مُجبرة على العيش في صفوف مهشمة بعضها لا جدران لها، وأخرى تجتمع فيها كل معاني البؤس.

 

تنشر الأم التي ترعى أطفالها في هذه المدرسة غسيلها على حبل ربطت طرفيه على أعمدة مُدمرة، وفي الليل، ينام جميع أطفالها في غرفة صغيرة، يرتدون جميعهم السُتر وكأنهم ذاهبون في رحلة للعب بالثلج، لكن في الحقيقة هم يبحثون عن بعض الدفء ليس أكثر.

 

في غرفة أخرى داخل المدرسة، يضع آب الغطاء على طفليه اللذين أرادا الخلود للنوم بجانب حائط السبورة، والسبورة في هذا المكان ليست للكتابة، فالعائلات حولتها إلى مكان تعلّق عليها أوانيها المنزلية المتواضعة.

 

عندما تسير في ردهات المدرسة، ستجد خزاناً للمياه هنا، وملابس أطفال مهترئة هناك، ستصادف طفلاً يلعب في مكان كان يوماً صفّاً للتلاميذ، تراه يمسك الركام ويلقي به، وأحياناً يرقص وكأنما يسخر بطريقته هذه من قساوة الحرب وتوحشها.

 

داخل المدرسة التقينا بالطفل حسن، يعيش مع عائلته في أحد صفوف المدرسة، يكره حسن النوم في فرشته غير المريحة لكنه مُجبر على ذلك، وفي هذا المكان لا يشعر أحمد وشقيقه عدي بالدفء، فالمكان لا توجد فيه مدفأة وجدران الصف دائماً ما تكون باردة. 

 

يسرح حسن في خياله، يقف على أطلال ذكرياته الجميلة عن منزله الذي تربى به، يتحدث كيف كان يلعب هناك، حتى عندما يحلم يرى نفسه يلعب في فناء منزله ليصحوا فيما بعد ويُدرك أنه يعيش صباح يوم جديد من البؤس.

 

 

في ريف إدلب أيضاً، يتجرع الطفل أحمد (13 عاما) مرارة الحياة كل يوم، فهو الذي اختبر قسوة العيش منذ أن بدأ وعيه بالحياة يتشكل، هذه القسوة جعلته يبكي عند حديثنا معه حتى انقطع صوته. 

 

يعيش أحمد مع عائلته في غرفة داخل “معصرة زيتون” مهجورة، في يوم ما كان لمحمد وعائلته بيتاً في ريف دمشق، لكنهم نزحوا كغيرهم إلى الشمال السوري للنجاة بأرواحهم. 

 

في المكان المهجور الذي يعيش به أحمد تتضاعف المعاناة بكل شيء من مناحي الحياة، يومياً يقطع الطفل وشقيقه قصي مسافة 5 كيلو متر مشياً للذهاب إلى أقرب مدرسة لهما، تتبلل ملابسهما من الأمطار، تضربهما الرياح الباردة، وبالنسبة إلى أحمد فإن الذهاب يومياً إلى المدرسة يمثل مهمة صعبة له بسبب معاناته من قدم في قدميه.

 

يعود الطفلان مُتعبين مُنهكين إلى غرفتهما في المعصرة، ينامان في مكان متواضع للغاية، ولولا الفراش وبضعة أغطية في المكان، لظن المرء بأن هذه الغرفة هي الأخرى مهجورة ولا حياة فيها.

 

إذا ما أراد أحمد وعائلته أن يحصلوا على الدفء فيحرقون الورق، وأحيانا الحطب. 

 

روى لنا أحمد حلماً رآه خلال نومه، شاهد نفسه بأنه عاد إلى “الشام” التي يحبها، وأنه يعيش في بيته هناك قبل أن يُجبر على مغادرته.

 

أنهى أحمد مقابلته معنا بالبكاء، شكى من سوء الوضع المادي لعائلته، فهو يحتاج إلى عملية أخرى في قدمه ليتخلص من الألم ويصبح قادراً على الحركة بشكل أفضل، لكن بالكاد تستطيع العائلة تأمين قوتها اليومي.

 

وإذا ما كان لعائلتي أحمد وحسن جدراناً ينامون تحتها، فإن الطفل نهار الحسن وأسرته لا ينعمون بذلك. 

 

يبقى نهار صاحياً حتى بعد منتصف الليل، فالبرد يقتل النعاس في عينيه وهو في خيمته، بل دائماً ما يشعر الطفل بالخوف من أن ينام ويصحو ليجد نفسه غارقاً بمياه الأمطار. 

 

في خيمة أخرى، تجلس الطفلة أمينة ذات الـ11 ربيعاً تحت غطاء وترتدي قبعتها للحصول على الدفء، شأنها في ذلك شأن جميع أفراد العائلة.

 

تحرص أمينة على أن تبدو خيمتها بشكل مُرتب، تضع الغطاء على الفراش، تحرص على ألا تبدوا أغراضها عشوائية في المكان، لكن كل ما تفعله أمينة مُهدد بالزوال في وقت قصير، فالأمطار بالنسبة لها تعني استنفاراً وقلقاً وخوفاً من اجتياح المياه لأرجاء خيمتها البائسة.

 

ما الذي تحلمين به يا أمينة عندما تنامي؟ تقول الطفلة بصوتها البريء إنها تصحو مفزوعة عندما ترى في منامها بأن مياه الأمطار غمرت خيمتها، وتأمل أمينة بأن تعود يوماً ما إلى منزلها كي تنام من دون قلق.

 

هؤلاء الأطفال ليسوا سوى جزء من مشهد مأساوي أكبر يعيشه السوريون، وبحسب وكالات الأمم المتحدة فإن نصف سكان سوريا اضطروا للفرار من منازلهم، ويبلغ عدد النازحين بالداخل 6.7 مليون بينهم نحو 2.5 مليون طفل.

 

تشير الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة إلى وجود أكثر من 13 مليون سوري بحاجة للمساعدة الإنسانية والحماية، كما أن 90 بالمئة تقريباً من السكان يعيشون في فقر.

 

يُعد الأطفال من بين أبرز الفئات المتضررة مما حدث ويحدث في البلاد، إذ تقول منظمة “الرؤية العالمية”، إن متوسط العمر المتوقع للأطفال في سوريا انخفض في العام 2021 بواقع 13 عاماً.

 

تُشير تقديرات منظمات حقوقية أيضاً إلى أن عدد المساكن المُدمرة في سوريا وصل إلى 3 ملايين مسكن، الأمر الذي يضطر الملايين للعيش في ظروف مريرة للغاية.