كاتب التقرير: مراد القوتلي
تصوير: بكر القاسم
وقف نور الدين الذي تلونت أصابعه بالسواد مشدوها، عاجزاً عن قول أي كلمة، رفع يده وهو يمسك بقية معطف زهري اللون وحدق به مراراً، فقبل وقت قصير كان هذا المعطف على جسد طفلة ارتجف قلبها من البرد في خيمة أحاطت بها الثلوج.
أما الآن فلم يعد ذلك القلب ينبض بالحياة، ولن يعد المعطف صالحاً للاستخدام، فالطفلة التي كانت ترتديه فارقت الحياة مع شقيقتها الأخرى، بعدما شب حريق في الخيمة حمل لهيبه كارثة للعائلة النازحة في مخيم يقع بمنطقة أبراز بريف عفرين شمالي سوريا.
توفيت انتصار ولين، الأولى عمرها 5 سنوات، والثانية 3 سنوات، ونجت أمهما من الموت حرقاً، لكنها الآن باتت تواجه ما هو أصعب من شعور الحرق، فهي ستُكمل بقية حياتها في لوعة على طفلتيها، اللتين ماتتا فقط لأنهما حاولتا الحصول على الدفء بوسيلة تدفئة بسيطة وغير آمنة.
عندما تمر من جانب خيمة الطفلتين النازحتين تجد بقية من آثارهما، فهنا ثوب لهما محترق، وهناك تلك السجادة المتواضعة التي كانتا تنامان عليها، ولم توفر لهما يوماً شعوراً بالدفء.
جيران انتصار ولين يشعرون بالمرارة عليهما، فهم لا ينسون ضحكة ارتسمت على وجه انتصار بجانب خيمتها، ولا قفزة لين على الأرض وهي تلعب عندما كانت نفحات السعادة القليلة في حياتها تداعب طفولتها.
كانت العاصفة الثلجية التي ضربت مخيمات الشمال السوري كابوساً بالنسبة لساكنيه، فالخيام غير مؤهلة أبداً للصمود في أي ظرف جوي استثنائي، لذلك يكون احتمال الخطر كبيراً على النازحين.
هذا ما حدث تماماً مع عائلة لين وانتصار، فكل شيء حدث بلمح البصر، انفجرت المدفأة داخل الخيمة، واشتعلت النار، ثم اجتاحت ألسنة اللهب بقية أجزاء الخيمة، وغطى الدخان المكان بالكامل، فأصاب الطفلتان وأمهما بالعجز عن الحركة، ثم بدأ الاختناق إلى أن فارقتا الحياة.
علامات الصدمة كانت بادية بشكل واضح على وجه نور الدين الذي كان يحمل ما تبقى من مقتنيات للطفلتين، فهو أحد أقرباء العائلة، ويعيش هو الآخر ظروفاً حياة مأساوية لا تقل قساوتها عن ظروف حياة عائلة انتصار ولين.
TinyHand التقت نور الدين الذي فتح هاتفه وأظهر صورة للطفلتين وهما متعانقتان، ومن يدري ربما ماتتا أيضاً وهما في عناق أخير مليء بالصرخات، والحب، والخوف.
يقول نور الدين وهو يقف بجانب بقايا الخيمة، إن 10 ثوان فقط كانت كفيلة بأن تحل الكارثة على عائلة الطفلتين اللتين نزحتا إلى المخيم قبل 8 أشهر فقط.
على مقربة من الخيمة السابقة لانتصار ولين، تتحسر سيدة على رحيل الطفلتين وعلى وضعها وحال بقية النازحين في المخيم.
احتراق الخيمة أثار فزعاً لدى بقية العائلات التي تكافح يومياً لتدفئة أطفالها، وتقول السيدة إنها وعائلتها يشعرون بالبرد طوال اليوم، وإنهم باتوا أقل جرأة على استخدام المدفأة خوفاً من مصير مشابه لمصير انتصار ولين.
رحلت انتصار ولين، وبقيت لوعة عائلتهما، ومكان خيمتهما الذي يشهد على مأساة لطالما تتكرر في مخيمات النازحين واللاجئين السوريين في كل شتاء، فمن لم تحترق خيمته تُغرقها المياه، وتهدمها الثلوج.
لطالما كانت الخيام مصدر خطر على قاطنيها بسبب أساليب التدفئة غير الآمنة المُتسخدمة فيها، والتي تزيد من خطر الإصابة بأمراض تنفسية ومضاعفات بسبب تنشق الدخان، بحسب منظمة “أطباء بلا حدود”.
تُقدر الأمم المتحدة، وجود أكثر من 1.6 مليون شخص يعيشون في الشمال السوري، ضمن نحو 1300 مخيم، المئات منها عشوائية وتفتقر لأدنى مقومات الحياة، رحلت انتصار ولين فمن سينقذ البقية؟
تحت إدارة الدكتور التركي فرات ساري إلى جانب أطباء وممرضين وسائقي سيارات إسعاف، عملت “عصابة الأطفال حديثي الولادة” كما أطلقت عليها السلطات التركية على تنظيم عمليات إدخال أطفال حديثي الولادة في الحاضنات لأيام طويلة رغم أن وضعهم الصحي لا يستدعي ذلك…
أكتوبر 21, 2024بعد أكثر من ستة أشهر من الحرب، لدى أطفال قطاع غزة العديد من الأسئلة التي لا يستطيع أهاليهم الإجابة عنها. متى ستتوقف الحرب؟ كم ليلة أخرى سينامون على الأرض؟ متى يمكنهم العودة إلى المدرسة؟ بعضهم لا يزال يسأل عن زملائهم الذين قتلوا.
…