رحلوا وبقيت روائحهم النقية… عيد بدون أطفال في منازل نازحين سوريين

الرائحة أقوى مما تعتقد ولا يمكن إيقافها عندما يرتبط الأمر بذكرياتنا العاطفية، فرائحة لعبة صغيرة كانت تحتضنها الوالدة فاطمة بين يديها قلبت حال تلك المرأة رأساً على عقب، حتى الحروف والكلمات أصبحت تخرج من فمها ثقيلة مثقلة بالألم.

فاللعبة المهترئة التي كانت تحملها بين يديها بحرص عادت بنا 5 سنوات إلى الوراء.

14.08.2016 هو تاريخ اليوم الذي رحلت فيه طفلتي رينال، تتابع فاطمة “كان ولا يزال أسوأ يوم في حياتي، أنا متأكدة لا يوجد شيء يمكن مقارنته بهذا الألم”، تقول لنا الأم المفجوعة من داخل منزلها الذي نزحت إليه في إدلب بسوريا.

لم يكن غريباً أن تكون لعبة رينال المفضلة كلباً، فالطفلة كانت تعشق الحيوانات ففي الساعة الأخيرة قبل مقتلها كانت تهتم بالصيصان في مزرعة عائلتها، تطعمهم واحداً تلو الأخر بيديها، “هذا المشهد لن أنساه أبداً بكل تفاصيله وكأنها أمامي الآن مع الصيصان”.

بينما كانت تلملم هذه الأم أوجاعها، وتسترجع تفاصيل ذلك اليوم قررت أن توضب لعبة طفلتها كي لا تخسر تلك الرائحة.

 كان عمر تلك الطفلة 8 سنوات عندما قتلتها شظايا صاروخ سقط بالقرب من منزلها، وانتشرت شظاياه أيضاً في أجساد عائلتها، ولكن أقوى ندبة كانت تلك التي خلفّها رحيل رينال في قلب والدها، “كانت تربطها علاقة مميزة مع والدها، دخل في حالة صدمة وصمت من خبر موتها”.

“مهما مرت الأيام والسنوات من المستحيل نسيانها” تقول الوالدة فاطمة، بينما كانت تحدّق إلى  صورة ابنتها على الموبايل، تهمس بكلمات لم تكن واضحة لنا لكن ذلك لم يكن مهماً يكفي أن ابنتها تنصت إليها.

هناك دراسة حديثة أجرتها جامعة روكفلر في مدينة نيويورك تقول إننا نتذكر 35٪ مما نشم ، مقارنة بـ 5٪ فقط مما نراه و 2٪ مما نسمعه.

رغم أن علماء هذه الجامعة يقطنون في الطرف الآخر من الكرة الأرضية، لكن ما تراه من أمهات مفجوعين من خسارة أطفالهم في حرب لها عشر سنوات في سوريا، وذكرياتهم التي اختصروها بقطع من القماش أو بقايا ملابس كفيل بإثبات نظرية الرائحة تلك وقدرتها الخارقة في نبش صناديق الذكريات المؤلمة.

وفي داخل أحد تلك الصناديق خبأت هدى الجدة النازحة من مدينة حلب أوجاعها، صندوقها كان أكبر حجماً من صناديق أمهات أخريات قابلناهم، ففي ذلك الصندوق يوجد ذكريات لثمانية أشخاص، أولادها وأحفادها، أصغرهم لم يكن قد تجاوز الشهر من عمره.

سألناها متى حصل ذلك، ترددت قليلاً ثم أجابتنا “قبل 4 سنوات حصل ما حصل” موضحة أنها قررت التوقف عن حساب الأيام، لكن مناسبات مثل هذه الأعياد تأتي مثل الصفعة على الذاكرة تعيد بكل تفاصيلها من غادرنا من احباب. 

وخاصة اللحظات الأخيرة قبل وفاتهم فهي كانت معهم أيضاً عندما وقع القصف، سمعت أصواتهم وهم يصرخون من الخوف والألم.

تقول هدى” كانت الساعة السادسة صباحاً قبلتهم وقمت بتغطيتهم، بعد ساعة بدأ القصف، هرعت ابنتي تصرخ مات أولادي، وصرخت معها مات أولادي وأحفادي!

“تلك اللحظات صعبة أحاول عدم تذكرها”.

ورغم محاولات الجدة هدى بعدم تذكر ما خسرت، إلا أنها ترى في وجوه كل الأطفال أحفادها، وفي امرأة حامل ابنتها الحامل التي قضت وجنينها في القصف.

هذا ووفقا لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) فقد قتل وأصيب نحو 12 ألف طفل خلال سنوات الصراع في سوريا، من أصل 387,118 قتيل وثقهم المرصد السوري لحقوق الإنسان حتى ديسمبر/كانون الأول 2020.