رعي الأغنام في الجبال اليمنية: أطفال ضحايا هذه المهنة الخطيرة

حاشد الشبلي/ خيوط

لم أتخيل أنّي سأقف يومًا أشاهد فيه طفلي، عكاز أيامي القادمة، طريحَ الأرض مضرجًا بدمائه، بين الحياة والموت، يغادر الحياة ببطء شديد بعد أن استنفد جسده النحيل كلَّ ما كان يحتويه من دماء!”؛ بهذه الكلمات يتحدث الخمسيني علي صغير المرهبي، الذي فقد ولده في جبال إحدى مناطق ريمة أثناء قيامه برعي الأغنام.

تتميز هذه المحافظة، التي يشكّل سكانها ما نسبته 1.05% من إجمالي سكان اليمن، بطبيعة وعرة وجبال شاهقة في الارتفاع، حيث تقع وسط سلسلة الجبال الغربية بين درجتي (14.36 و14.88) شمالًا، وبين درجتي (43.50 و44) شرقًا، وتبعد عن العاصمة صنعاء بحوالي (200) كيلو متر، في حين تتعقد تضاريسها بكثرة الالتواءات وشدة الانحدارات.

أحمد علي صغير (14 عامًا)، كان يعمل في رعي الأغنام في الجبال المتاخمة لقريته في محافظة ريمة (غربي اليمن) لنحو 8 ساعات يوميًّا، من الساعة السابعة صباحًا حتى الثالثة عصرًا، قبل أن يفقد حياته بعد سقوطه من قمة الجبل. 

يقول والده علي المرهبي، لـخيوط“: “نعتمد كأسرة على مهنة رعي الأغنام كمصدرٍ للعيش، وسبيل لسدّ احتياجاتنا الضرورية، يعمل أحمد كما عملت أنا؛ لأنّ الرعي بالنسبة لنا مهنة متوارثة“.

يعد اليمن مجتمعًا ريفيًّا بنسبة تتجاوز 60%، حيث تعتبر الزراعة وتربية الماشية أهم الأعمال التي يمتهنها سكان هذه المناطق، في ظلّ مشاركة جميع أفراد الأسر في هذه المهام والأعمال؛ بسبب ما تعاني منه من فقر وبطالة وتردٍّ معيشي وافتقار لأبسط الخدمات العامة كالتعليم والصحة، إذ يتم الدفع بالأطفال للقيام ببعض هذه المهام والأعمال كرعي الأغنام والتي تعتبر مهنة شاقة وخطيرة، خصوصًا أنّ جزءًا كبيرًا منها يجري في أعالي الجبال الشاهقة.

  • جاءت حادثة سقوطه من قمة جبل لتكمل المأساة ويصبح بلا رِجل ولا يد، إلا من أمل ما، ودعوات أمه المفجوعة به، ورجائها أن يجد ابنها من يأخذ بيده ويتكفل بتركيب رجل صناعية عوضًا عن قدمه المبتورة لكي يعود للحياة، ويعتمد على نفسه دون مساعدة أحد، تذرف أم محمد دموعها وهي بجواره طوال الوقت في المستشفى.

لم يخطر في بال هذا الأب المكلوم أنّ ذلك الصباح الذي غادر فيه ابنه أحمد للرعي في قمة جبل (الغربي) المتاخم لقريةالمنطقة الريفية” (المعزبة) هو اليوم الأخير الذي لن يرى بعده أحمد للأبد!

يصف المرهبي هول الحادثة تلك بالقول: “سمعنا صراخ الفتيان الذين كانوا بمعية أحمد؛ كانوا يرعون أغنامهم، فور سماعنا لصراخهم هرعنا إلى الجبل لمعرفة ما الذي أفزعهم، فكانت الصدمة التي كسرت ظهري؛ وجدت أحمد مضرجًا بدمائه غير قادر على إبداء أيّ حركة، كأنه كان يلفظ أنفاسه الأخيرة“.

أسرع هذا المواطن اليمني بابنه إلى أقرب مرفق صحي في مركز مديرية السلفية، الذي يبعد عن منطقته الريفية التي قدم منها بنحو أربع ساعات بالسيارة التي تجتاز خطوط وعرة غير مؤهلة. “لكن هذه المحاولات كانت بدون جدوى؛ يغالب المرهبي دموعه أثناء حديثه.

بلغ عدد الأشخاص الذين سقطوا من قمم الجبال في هذه المديرية (السلفية) وحدها، أثناء ممارسة مهنة الرعي من بداية عام 2019 وحتى نهاية 2022، ما يقارب (23) حالة، جلّهم من الأطفال والفتيان وفق حسين الثلايا، مدير عام مستشفى المسجدين الحكومي في المنطقة.

يغالب المرهبي دموعه متابعًا حديثه: “استمر النزيف من الرأس، وأماكن أخرى، ونتيجة لطول المسافة كان أحمد يفارق الحياة ببطء شديد، فيما وقفت مكتوف الأيدي، إلا من مشاعر مختلطة بين الألم والخوف وأمل النجاة“.

المركبة أو السيارة التي يتم الاعتماد عليها في مثل هذه المناطق غير مخصصة للإسعاف الطبي في الحالات الطارئة، في حين كانت المسافة لأقرب مرفق صحي طويلة، ووحده صراخ وأنين أحمد كان لا يتوقف؛ الأمر بالنسبة له أشبه بكابوس مرعب، إلى أن جاءت لحظة مفارقة أحمد للحياة قبل الوصول لأقرب مرفق صحي.

في السياق، يؤكّد خالد فرحان، مسؤول في مكتب الصحة العامة والسكان بمحافظة ريمة، في حديث لـخيوط، أنّ هناك أكثر من سبع حالات نساء، وأكثر من 11 حالة من الأطفال والفتيان والشباب فقدوا حياتهم في العام الماضي 2022، نتيجة تسلق الجبال والتنقل بين القرى الجبلية المتجاورة، أو ممارسة مهنة الرعي.

الإعاقة ثمن لإنقاذ المواشي

قصة أحمد المرهبي التي انتهت بوفاته، ليست إلا واحدة من بين عشرات القصص المأساوية التي يذهب ضحيتها رعاة الأغنام والمواشي في هذه المحافظة (ريمة) ومختلف محافظات ومناطق اليمن، محمد ناصر (13 عامًا) هو الآخر فقدَ إحدى قدميه إثر سقوطه من قمة جبليفعانفي مديرية السلفية (شرقي ريمة)، عندما كان يحاول إخراج إحدى المواشي من منحدر خطير وقعت فيه، ما جعلها تفقد القدرة على الحركة. 

تقول والدته لـخيوط“: “لو كنت أعلم أنّ ولدي سيصبح معاقًا لتركنا الغنمة (الماعز) تموت في مكانها، ولكنّنا ما زلنا نعيش بأمل أن يتعافى ويجد رِجْلًا صناعية تمكّنه من أن يعود إلى حياته الطبيعية من جديد ويستمر في العمل ورعي الأغنام من أجل توفير متطلبات المعيشة لأسرته“.

بحسب بيانات زراعية رسمية، يصل حجم الثروة الحيوانية في اليمن إلى أكثر من 20 مليون رأس، منها 19 مليون رأس أغنام وماعز، إضافة إلى حوالي مليون رأس أبقار و390 رأس جمال، في حين تقدر مساحة المراعي الطبيعية في البلاد بحوالي 10 ملايين هكتار.

تضاعفت معاناة الطفل محمد بعد أن أصبحت رجله اليسرى مبتورة، فقبل خمس سنوات تم بتر يده اليسرى نتيجة حادثة سقوط من سطح المنزل، وبسبب التأخر في إسعافه، ومحاولة علاجه بطريقة بدائية، ونتيجة عدم قدرة الأسرة على علاجه في الوقت المناسب، تضاعف وضعه بشكل خطير وقرّر الأطباء بتر يده.

ثم جاءت حادثة سقوطه من قمة جبل لتكمل المأساة ويصبح بلا رجل ولا يد، إلا من أمل ما، ودعوات أمه المفجوعة به، ورجائها أن يجد ابنها من يأخذ بيده ويتكفل بتركيب رجل صناعية عوضًا عن قدمه المبتورة لكي يعود للحياة، ويعتمد على نفسه دون مساعدة أحد، تذرف أم محمد دموعها وهي بجواره طوال الوقت في المستشفى.

منحدرات أخرى

سعيد صالح الجهمي (12 عامًا)، ضحية هو الآخر من ضحايا حوادث رعي الأغنام؛ لكن حادثة إصابته تبدو غريبة نوعًا ما بالنظر لعشرات القصص الأخرى المتشابهة، إذ وجد نفسه عاجزًا عن الحركة، طريح الفراش، بإعاقة جسدية، وما حصل له كان بسبب القرود. 

  • الواجب الأسري تجاه الأطفال هو توعيتهم بخطورة المرتفعات والمنحدرات الخطيرة، ومنعهم من ممارسة الرعي في هذه الأماكن، وإرشادهم في كيفية التعامل مع المواشي بطرق محكمة تمكّنهم من السيطرة عليها، ومنع الأطفال غير البالغين من ممارسة مهنة الرعي.

يقول الجهمي، لـخيوط“: “هاجمتني القردة وأنا على تخوم قمة الجبل، قبل وصولي بقليل، حيث كنت أحرص على أن أطل على أغنامي من هناك، كون المكان يُمكّنني من الإشراف على حركتهن، ومقارعتهن والتحكم فيهن“.

حينها بدأت القرود بإسقاط وابلٍ من الأحجار عليّ، وعلى الأغنام التي كنت أعمل على رعيها في الجبل، فأصبت بِكسر في الرأس، وكسر في العمود الفقري أفقدني الحركة، بالإضافة إلى تمزق في عضلات اليد اليمنى، وبعض الجروح الأخرى؛ يضيف سعيد.

تسبّبت الحرب والصراع في اليمن منذ العام 2015، بأزمات اقتصادية ومعيشية واسعة في البلاد، وتوسع الفقر والبطالة بمستويات قياسية، وتدهور الأمن الغذائي وفقدان أرباب الأسر لمصادر دخولهم، إلى جانب محدودية وتردّي خدمات الصّحة والتعليم والمياه والصّرف الصحي، كلها عوامل عديدة جعلت اليمن من أصعب الأماكن التي يمكن للأطفال العيش فيها.

يقول الأكاديمي عمار علي، أستاذ الزراعة بجامعة صنعاء، لـخيوط“: “إنّ الواجب الأسري تجاه الأطفال هو توعيتهم بخطورة المرتفعات والمنحدرات الخطيرة ومنعهم من ممارسة الرعي في هذه الأماكن، وإرشادهم في كيفية التعامل مع المواشي بطرق محكمة، تمكّنهم من السيطرة عليها، ومنع الأطفال غير البالغين من ممارسة مهنة الرعي“.

ويحثّ على ضرورة إيجاد مساحات آمنة لرعي المواشي بعيدة عن المنحدرات الخطيرة والمرتفعات الجبلية، والعمل على محاربةالقرودوالتخلص منها، ليتمكن المارّة في طرق الجبال من العبور بسلام، وكذلك العمل على إصلاح طرق ومسالك مناسبة للتنقل بين الجبال.