بدأت تنفد الخيارات أمام الأب الذي كان أطفاله ينتظرون منه أن يفعل شيئاً لهم، عيونهم جميعها متجه نحوه، وكأنما يسألونه كيف سيسكّن ألم عظامهم التي سكنها البرد.
لم يكن متاحاً له التحرك خارج الخيمة فالأرض مليئة بالوحل، والرياح عاتية، والأمطار تنهمر كشلالٍ لكن مياهها لا تسبب المتعة أبداً.
بيدين متثاقلتين حمل الأب قطعة ألبسة صغيرة، بدت وكأنها لأحد أطفاله، حدّق بها قليلاً ثم رماها في المدفأة المتواضعة، أكلتها النيران على الفور، وشاهد الأطفال تلك القطعة وهي تتحول إلى السواد شيئاً فشيئاً، لكن الوقت الآن ليس مناسباً للحزن.
تجمعت أيادي الأطفال الصغيرة بجوار المدفأة، يمكنك رؤيتها وهي ترتجف من البرد، ثم بدأ الدفء الخارج من المدفأة يتصاعد شيئاً فشيئاً، نعم هدأت أجساد الأطفال الباردة، لكن الحسرة كانت تشتعل أكثر فأكثر في مشاعر الأب.
في مخيمات الشمال السوري، يتكرر هذا المشهد وأحياناً أقسى منه عندما يريد مئات آلاف النازحين الحصول على التدفئة في الشتاء القارس.
تُقدر الأمم المتحدة، وجود أكثر من 1.6 مليون شخص يعيشون في الشمال السوري، ضمن نحو 1300 مخيم، المئات منها عشوائية وتفتقر لأدنى مقومات الحياة.
يضطر الناس هناك إلى التدفئة بأساليب قد تسمع عنها لأول مرة، كل شيء هناك يمكن استخدامه كوسيلة للتدفئة، وإن كان الثمن ضرر مباشر على صحة النازحين في الخيام، وخصوصاً الأطفال.
يقف “محمد” وهو أب لخمسة أطفال داخل خيمة، فيها الكثير من أكياس النايلون، وقطع قماشية لألبسة يبدو أنها لأطفال، وعبوات من “الشامبو”، وكثير من الأغطية البلاستيكية، يضطر “محمد” يومياً إلى أن يضع هذه الأشياء في المدفأة التي يتجمع حولها أطفاله لتدفئة أياديهم وأقدامهم.
يشعر “محمد” بالألم لأن مواد البلاستيك والنايلون تلحق الضرر بأطفاله، فرائحتها ودخانها ينتشران في أرجاء الخيمة، لكنه كما يقول “ليس بيدي حيلة”.
السعي إلى الدفء الذي ينشده أطفال “محمد”، يجعلهم يدفعون ثمناً مضنياً لقاء ذلك، فهم يخرجون إلى مركز مدينة إعزاز، من أجل جمع العبوات والأكياس البلاستيكية من حاويات القمامة والشوارع، وإذا لم تكن الكميات التي جمعوها كافية، يقول “محمد” إنهم يضطرون للذهاب إلى مكبات القمامة للعثور هناك على مواد يعودون بها إلى الخيمة لإحراقها.
الرجل الذي التقته TinyHand في خيمته، قال إنه لا يقدر على شراء الحطب التي يُعد وسيلة أفضل وأأمن للتدفئة، لذلك يعتمد بشكل رئيسي على النايلون لحرقه في المدفأة، لكن دائماً ما يخشى من أن تتحول المدفأة في يوم ما إلى كارثة عليه وعلى أفراد خيمته، فالكثير من المدافئ البدائية المنتشرة بالمخيمات، تسببت في حرق الخيام وفي قتل أصحابها.
في خيمة أخرى، يمسك العم “أبو حمد” قطعة من الحديد ويدخلها بين نيران المدفأة، يدفع بها النايلون والبلاستيك ليتأكد أنها اشتعلت. بجانبه كيس مليء بالورق والنايلون، ودائماً ما ترهقه رحلة البحث للعثور على مواد يستخدمها للتدفئة.
يطلب “أبو أحمد” من الناس وخصوصاً الباعة، ألا يرموا الكرتون، ولا مواد النايلون والبلاستيك في الحاويات، فهو وأطفاله بأمس الحاجة إليها.
يشكو العم “أبو حمد” من ارتفاع سعر المازوت الذي يأمل في يوم ما أن تكون لديه القدرة على شرائه واستخدامه في تدفئة أطفاله، لذلك يضطر إلى خيارات أخرى وصلت إلى حد أنه في بعض الأحيان يضطر إلى قلع الحشيش من الأرض ورميه في المدفأة.
تنقلنا في عدد من الخيام الأخرى، وجدنا أناس قد لجأوا إلى أساليب أخرى لاستخدامها في التدفئة، التقينا بـ”محمود” الذي كان منهمكاً في تقطيع إطار سيارة مصنوع من المطاط ويطلق عليه باللهجة المحلية اسم “الكوشوك”.
يحتاج تقطيع هذا المطاط إلى قوة بدنية، وأدوات خاصة، لكن تلك الأدوات لم تكن متوفرة في خيمة “محمود”، لذا لجأ إلى سكينة صغيرة استنزفت قواه.
تشتعل أجزاء المطاط في المدفأة لتبدأ رائحته المزعجة تنتشر في الخيمة، عدا عن أضراره الكثيرة التي تلحق بأجساد أهل الخيمة.
على بعد أمتار من خيمة “محمود”، كان العم “حسن” يتألم وهو يحرك بعصا المواد التي وضعها داخل المدفأة، فالنار كانت تخرج من المدفأة وتحرق أصابعه، ومن شدة ألمه وانزعاجه، كان يضرب قدمه بيده.
الحال السيء لدى عائلات أخرى في مخيمات الشمال السوري، دفعت البعض إلى اللجوء حتى إلى روث الأبقار، واستخدام الروث في التدفئة يعني أن سكان الخيمة مضطرين إلى تحمل تلك الرائحة العفنة التي يدفعون ثمن استنشاقها مقابل الحصول على الدفء.
هذه الوسائل غير الصحية في التدفئة، يُخشى أن تتسبب في مرحلة لاحقة بأضرار وأمراض خطيرة للنازحين.
يعد حرق المواد البلاستيكية واستنشاق دخانها من الأسباب الرئيسية لأمراض خطيرة خصوصاً على الحوامل، وقد تؤدي في “بعض الأحيان إلى ولادة أطفال يعانون من عاهات خلقية”، بحسب ما قاله الطبيب عبد الله عموري لوكالة “الأناضول“.
الأخطر من ذلك، فإن المركّبات السّامة التي تنتج عن اشتعال المواد تضعف من الجهاز المناعي للإنسان، وقد تؤدي في بعض الحالات إلى الإصابة بأمراض خطيرة من بينها سرطان الكبد والرئة.
تقول منظمة “أطباء بلا حدود”، إن الذين يعيشون في مخيمات الشمال السوري، يواجهون خطر الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي والأمراض المنقولة بالمياه والتثليج، بالإضافة إلى المضاعفات المتعلّقة باستنشاق الدخان والحروق بسبب طرق التدفئة غير الملائمة والوقود الذي يتم تخزينه في الخيام.
على سبيل المثال، لاحظت المنظمة زيادة في أمراض الجهاز التنفسي بنسبة 30 في المئة بين خريف 2019 وشتاء 2019-2020 في مخيمات دير حسّان، حتى قبل وصول فيروس كورنا إلى شمال غرب سوريا.
علاوة على ذلك، تعدّ أمراض الجهاز التنفسي بين أكثر ثلاثة أمراض تم الإبلاغ عنها في مرافق المنظمة بالشمال الغربي لسوريا، وخاصة خلال فصل الشتاء.
وقف نور الدين الذي تلونت أصابعه بالسواد مشدوها، عاجزاً عن قول أي كلمة، رفع يده وهو يمسك بقية معطف زهري اللون وحدق به مراراً، فقبل وقت قصير كان هذا المعطف على جسد طفلة ارتجف قلبها من البرد في خيمة أحاطت بها الثلوج….
يناير 27, 2022أثارت رحلة اللاجئة الدمية العملاقة المهاجرة من سوريا إلى مانشستر ردود فعل قوية، من تعرضها للرشق بالحجارة في اليونان إلى استقبالها في روما….
أكتوبر 22, 2021