عصام القدسي | صنعاء
يوم الأحد 6 يونيو/ حزيران عند التاسعة والنصف صباحًا، كانت السيدة فاديا تقف أمام بوابة السجن الذي قطعت مسافات طويلة للوصول إليه، كان حارس البوابة يستفسر منها سبب قدومها وغرض الدخول، بينما يفتش كيسًا بلاستيكيًّا طبعت عليه دعاية إحدى الشركات المحلية، في الكيس وضعت أغراض الزيارة.
“تم تغيير الأسماء للشخصيات للحفاظ على خصوصيتهم وأمنهم”
دخلت فاديا حوش المبنى واتجهت نحو نافذة عليها شباك حديدي وفتحة صغيرة، يصطف أمامها عدد كبير من الزائرات، الأمر يتكرر يوميًّا ويستغرق معها ساعة أو أقل من ذلك، زمن الانتظار هذا يتوقف على مقدار إشباع رغبتهم لما جاؤوا لأجله.
اليوم كان حظها أوفر من بقية الأيام، خمس دقائق فقط كانت مدة الانتظار، وها هي الآن تتحدّث مع طفل صغير لا يتجاوز العاشرة من عمره.
يفصل بينهما شبك حديدي أشبه بما يوضع على نوافذ السجون.
تتشابه هذه الزيارة كثيرًا مع زيارات السجناء، وإن حملت التفاصيل نفسها، فالاختلاف كبيرٌ هنا؛ لأن من يتصدر دور المحتجز خلف القضبان طفلٌ صغير، ربما مكانه الصحيح خارج هذا المكان المحاط بالأسوار الكبيرة والممرات الطويلة، “دار التوجيه الاجتماعي” المكان الذي يودع فيه أطفال الأحداث الذين هم في خلاف مع القانون.
في الوقت الذي يصارع فيه أطفال الشوارع مشقات العمل والمخاطر التي يرافقها، يقضي أطفال آخرون طفولتهم وراء القضبان، وبعيدين عن حياة حرمتهم الظروف الصعبة منها.
في دار التوجيه الاجتماعي بنين في صنعاء المعروف بسجن الأحداث، قرابة الـ200 طفل في نزاع مع القانون، لا يعرفون لماذا أتوا؟ وكيف وجدوا أنفسهم في هذا المكان مع آخرين يتشابهون في المصير نفسه؟ منهم طفل فاديا الصغير محمد.
أنشئ دار التوجيه الاجتماعي للبنين عام 1978، والذي يعمل على احتواء الأطفال الذين هم في خلاف مع القانون، أو ما يسمى أطفال الأحداث أو الأطفال الجانحين، معظم القضايا التي تدخل إلى هذا الدار تشبه القضايا التي تدخل إلى السجن المركزي، ولكنْ فاعلوها من فئة الأطفال.
الزائر لدار التوجيه الاجتماعي الخاص باحتجاز الأطفال الأحداث، سيغادره بحزن عميق، عدد كبير من الأطفال على عيونهم نظرات الدهشة!
كان الطفل مراد يراقبنا بنظرة مليئة بالتعجب، ويبتسم أكثر حين نحدق صوبه أثناء حديثنا مع أحد الموظفين في الدار. اقتربنا منه لنعرف حكايته؟ وكيف وصل إلى هذا المكان؟ ومهما كانت الظروف، هو طفل وجد نفسه في مكان لا ينتمي إليه.
لم يكن وصول هذا الطفل وتواجده هنا جزاء بما اقترفت يداه، فالحياة القاسية التي عاشها في منزله، والضرب والعنف دفعه إلى الهرب من المنزل.
لتشكل مدخلًا جديدًا لحياة لا تقل وحشية من جور الأسرة وقسوتها. كثيرة هي الليالي التي نامها الطفل البالغ من العمر 11 عامًا باكيًا من الضرب المبرح على يد والده، وكثيرة هي الصباحات التي بدأها بدموع القهر من العنف الذي لا يتوقف، وعندما وجد أيامه نسخة واحدة تتكرر بنفس مشاهد القسوة والعنف، قرر التخلص منها والهروب إلى المجهول.
لأكثر من 80 يومًا يقضي هذا الطفل حياته في دار الأحداث، عاش قبلها أكثر من عام ونصف مشردًا في الشارع دون معرفة أسرته عن مصيره شيئًا، مع أطفال آخرين سبقوه للمصير نفسه، وعملوا معًا في تنظيف السيارات، وعاشوا حياتهم في الشارع ليل نهار، حتى جاء أحد الأشخاص ودفعه لسرقة دراجة هوائية، ليجد نفسه بعدها في قبضة رجال الأمن، وصولًا إلى سجن الأحداث مع أعداد تتزايد كل يوم وبقضايا مختلفة.
الكارثة الأكبر تأتي بعد الإفراج عن الأطفال، مدير دار التوجيه الاجتماعي محمد العرافي يقول إن هناك بعض الأطفال في الدار لم تقبلهم أسرهم، حتى بعد صدور الإفراج عنهم، وفي حال تواصل الأخصائيين مع أهالي الطفل لمعرفة الأسباب يأتي الرد مؤلمًا، وهذا يسبب انتكاسة كبيرة للطفل.
وفي حال تواصل الأخصائيين مع أهالي الطفل لمعرفة الأسباب يكون الرد مؤلمًا، وهذا يسبب انتكاسة كبيرة للطفل
في المقابل، هناك بعض من الأسر لا يشكل انقطاعها عن زيارة أطفالها في دور الأحداث تخليًا أو إهمالًا لهم، فبُعدأماكن سكنها في محافظات بعيدة عن مراكز الاحتجاز إلى جانب الوضع المادي الذي تعيشه- سببٌ يعيقها من القيام بواجبها تجاه أطفالها، ورغم ذلك يحمل الأخصائيون الأسرة كل ما يحدث لهؤلاء الأطفال، خاصة أنها من تدفعهم للشارع لممارسات أعمال أكبر منهم، ويسقطون ضحايا، إضافة إلى العنف الأسري الذي يدفع بالأطفال إلى ممارسة أخطاء توقعهم في شباك القانون..
الجانب الآخر الذي كشفه لنا بعض القائمين على الدار، وهو أن هناك الكثير من الأطفال عندما يصلون إلى الدار يطلبون عدم رؤية أو زيارة أسرهم، فهذه المأساة يصفها الأخصائيون بالأمر المقلق. إذ ما الذي يجعل الطفل يهرب من مصدر حنانه ويلجأ لهذا المكان؟ لا إجابة مقنععن ذلك، حاولت “خيوط” الوصول لأسر هؤلاء الأطفال لكن من يتخلى عن طفله، ويرفض التجاوب مع الجهة التي تحتفظ به.
توضح إحدى الأخصائيات في الدار، تحفظت عن ذكر اسمها في حديثها لـ”خيوط”، أن الأطفال الذين يصلون إلى السجن في غاية الذكاء، وثمة حاجة إلى التعاطي معهم بحرص شديد؛ نظرًا للتجارب التي مروا بها في حياتهم، فهم ليسوا أطفالًا عاديين، وثمة تقويم شهري في مواكبة عملية التأهيل ومراقبة السلوكيات والتقدم في المشاغل لاعتبار أن التقرير الذي يرفع إلى القاضي له أثر كبير على القرار المتخذ بشأن الحكم الصادر عنه أيًّا كان، ويمكن اللجوء أحيانًا إلى بدائل عن الحكم في أعمال ذات منفعة عامة بحسب التهمة الموجهة إلى الطفل، حتى تشكل درسًا له، لكن في كل الحالات، هناك ما ينذر، بحسب قولها، إذا ما كان طفل سيعود إلى السجن حكمًا بعد خروجه، لسبب أو لآخر؛ لأن الإصلاح لا ينجح دومًا، وإن كانت قصص النجاح كثيرة.
هناك في دهاليز ذلك الدار الكثير من القضايا المعلقة من أشهر، إن لم تكن لسنوات، في دهاليز القضاء، ويقف أمام الإسراع في القضايا، بحسب القاضية في محكمة الأحداث إيمان الخطابي، معوقات وظروف، ترجع لأسباب كثيرة؛ من ضمنها افتقار النيابة إلى الأعضاء بشكل كبير، بالرغم أن القضايا كثيرة والأعضاء قلة.
وأوضحت الخطابي في حديث لـ”خيوط”، أن أكثر القضايا التي تتأخر وتتعلق في المحكمة هي القضايا الأخلاقية، بسبب قلة الأطباء المختصين بحالات الكشف، وبالنسبة لعضو النيابة يحتاج تحقيق شهرين من أجل القضية.
إشكاليات كثيرة تواجهها محكمة الأحداث، أثرت سلبًا على قضايا الأطفال في دهاليز القضاء، لكن وفقًا للخطابي فإن تأخر القضايا بسبب التقرير من الطبيب الشرعي، ويرتبط ذلك بحسب القضية ونوعها. ولم تنكر أن هناك قضايا تتأخر، لكنها كما تقول تعود لأسباب خارجة عن إرادتنا، ولأن قضاء الأحداث متخصص نوعي، فيلزم أن يكون مع الطفل الحدث ما يثبت سنه، وبعض الحالات لا يوجد لديها ما يثبت عمره، فنضطر لتحويله إلى الطبيب الشرعي، وكادر الطب الشرعي لدينا قليل جدًّا، فتتأخر القضايا بسبب هذا الأمر. وتضيف القاضية في حديثها أن الإشكاليات التي تواجهها محكمة الأحداث أيضًا، أن بعض الأطفال يهربون من محافظات بعيدة ويصعب التواصل مع أهلهم، كذلك عدم تفاعل ولي الأمر مع القضية، فالأصل هو الإفراج.
إذ يعد الاحتجاز ملاذًا أخيرًا للذين لا يوجد معهم ولي أمر.
التحقيق أنجزه موقع خيوط, وتم نشره في موقع Tiny Hand ضمن شراكة تعاون عقدها الموقعين
في هذا الحوار الذي أجرته Tiny Hand مع ندى سنتجول في محطات من حياتها بداية من مدينة زبيد في محافظة الحديدة اليمنية حيث حفل الزفاف الذي لم يتم، وصولاً إلى العاصمة البريطانية، 7 أعوام من حياة ندى!
…
عندما وصف المؤرخ فون هافن اليمن ب”أرض السعادة ” ربما لم يكن قد يتوقع أنها ستصبح شاهداً على مأساة….
ديسمبر 2, 2019